السبت، 1 نوفمبر 2008

كنت أجالسه كثيرا وإن لم أقابله إلا مرّة ! رحمة الله عليه !

الإخوة والأخوات .. هذه كلمات جرى بها القلم للتو ، ومن عادتي أن لا أقاطع القلم ما أمكنني ذلك ، فلم أشأ حجبها عنكم .. ولا سيما أنها من نوع خاص ..
-------------
نعم كنت أجالسه ساعات كثيرة ، وربما جالسته في اليوم الواحد بضع ساعات .. وإن كنت لم أقابله في حياتي إلا مرّة واحدة للأسف الشديد بعد أن وهن العظم منه ! وهي تلك الحال التي قال فيها يوما ما : لقد كبرت سني حتى لم أعد أطق المشيَ على قدمي من نجد - أو قال جدة - إلى بغداد !!
قابلته في داره ، بمدينة جدة قبل عقد من الزمن .. لكنني أكاد أتذكر كل ما في ذلك اللقاء الماتع النافع المحزن !
أكاد أتذكر ما فيه من حركات وسكنات ، والتفاتات ، وعبارات ... نعم سألته أسئلة علمية في ألفاظٍ اللغة المعربة والمولّدة ، إذ كنت شغوفا بذلك إذْ ذاك ..
وهكذا القلب إذا أحبَّ حفظ عن المحبوب ما يُحفظ وما لا يحفظ !
ذكريات الشيخ علي الطنطاوي ذكريات لها مذاقها الخاص ، وطعمها الفريد ، ونكهتها المميزة .. يتحدث فيها عن الشيخ علي الطنطاوي حديث الغريب عن الغريب ، والقريب عن القريب ، والغريب عن القريب .. يتحدث فيها عن تاريخ لا تكاد تجده عند غيره ، وعن تجارِب لا تكاد تسمعها من سواه ، وعن معترك حياة في ظروف عادية وغير عادية .. بل ويتحدث فيها عن نفسه وخلجات قلبه بصوت مسموع وأحرف بارزة ، يتحسسها الكفيف قبل أن يراها البصير .. تتسم بالصراحة والوضوح والتلقائية .. وكنت كتبت من قبل عن الأدب الذي مضى رجاله ، وكان مما جاء فيما كتبت لبعض الأعزاء مما ورد فيه ذكره :
" ورحم الله أيام فقيه الأدباء وأديب الفقهاء ذي القلم المعبر ، والعبارة الصادقة ، والمكاشفة الحقيقية حتى للذات ، أعني العلامة علي الطنطاوي عليه رحمة الله ! أديب يُضحك ويبكي ، ويهذِّب ويؤدَّب ، ويُحزِن ويفرِح !أدب بمعنى الكلمة ، لا كما هو واقع اليوم من قلة أدب بمعنى الكلمة ...
يقول العلامة الطنطاوي : الأدب إنما هو لخدمة الدين والوطن والأخلاق ، فإن خلا من أي من هذه ، فهو هذرلا قيمة له !لقد كان هذا جوابه الحاسم لمعركته مع أستاذه الشاعر شفيق جبري ، التي كانت بعنوان : هل يكون الأدب للأدب أم يكون للحياة ؟!
رحم الله أبا بنان ، فلقد ذهب ولم ير كثيرا من الهذر الذي يسمى : روايات وربما قدم لها بعض أصحاب الوزارات ! " ...

وما دعاني للحديث عنه الآن : رسالةٌ وصلتني تحمل ذكريات من تلك الذكريات ، لم يوثقها مرسلها ، لكن مضمونها موجود في الجزء الرابع من كتاب الشيخ : ( ذكريات ) ، ففيه تحدث الشيخ عن ذكرياته في المدرسة الغربية ببغداد ص 115 وما بعدها .. وهي ذكريات مليئة بالعبر ، منها حديثه عن اليهود الذين كانوا يمثلون تسعة أعشار الطلاب في الأقسام العلمية ! ووقع أن كان الخمسة الأوائل منهم ! وكيف تعامل معهم بمنهج العدالة بعد أن غاظ المديرَ شأنُهم .. وهذه قصة الشيخ علي الطنطاوي ملاكما .. بنصها الذي وصلتني به ، وفيها اختلاف يسير لا يضير ..

" ممّا وقع لي في بغداد تلك السنة (1939) أنني دخلت في فرقة الملاكمة فتعلّمت من هذا المدرّب الألماني وقفة الاستعداد وأنواع اللكمات: المستقيمة الأمامية والمنحنية الجانبية والقصيرة الصاعدة. والقاعدة عندهم أن يستعمل المبتدئ في بداية التدريب يده اليسرى وحدها، حتّى إن من المدربين من يربط اليمنى حتّى لا يستعملها.
تدرّبت أولاً على الكيس الثقيل، ثم شرعت أنازل بعض الطلاّب، أضربهم ويضربونني، فإذا دخلت الفصل عدت مدرّساً وعادوا طلاّباً. وأشهد أن طلاّب العراق يعرفون الانضباط تماماً.
ولبثت على ذلك شهوراً، حتّى كان يوم أصابَتني فيه ضربة من طالب تورّمَت منها عيني وظهر أثرها عليها، فقلت للمدرب: إلى هنا وبَسْ (وكلمة "بس" بمعنى "فقط" فصيحة معرَّبة من القديم).
ولكن سرعان ما طبّقت ما تعلمتُه من دروس الملاكمة؛ ذلك أنني زجرت يوماً طالباً مسيئاً يبدو أنه من أسرة غنيّة وجيهة، فحقد عليّ أهله.
وكنت في صباح يوم مطير من أيام الشتاء أمرّ أمام وزارة الخارجية ذاهباً إلى المدرسة، فاعترضني رجل طويل ممّن يُدعَون في بغداد "أبو جاسم لِرْ" أي من صنف الفتوّات كما يُقال في مصر أو القَبَضايات كما يُقال في الشام. وكلمة "لر" تركية هي علامة الجمع عندهم.
ففتح معي باباً للشرّ وقال: لماذا شتمت فلاناً (يعني من الطلاّب؟) أما عرفت من هو؟ وهل بلغ من قدرك أن تتطاول على ابن فلان؟ فقلت له: حافظ على أدبك، وإن كان لك كلام فراجع مدير المدرسة.فقال قولاً بذيئاً وهدّدني وأمسك بصدر ردائي حتّى كاد يشقّه، ثم لوّث ثوبي بحذائه المحمّل بالوحل والطين فترك عليه أثراً ظاهراً. وكان يمشي إلى يساري، فقبضت يدي وتناولته بلكمة جانبية جاءت تحت صدغه لم يكُن يتوقّعها.وتجمّع الناس وحالوا بيني وبينه، ولم أعد أستطيع المشي إلى المدرسة بهذا الثوب الملطّخ بالوحل فأخذت عربة (عَرَبانة كما يقولون) وذهبت فبدّلت ثيابي، ومررت بالأخ الكبير الذي كان مَفْزَعنا في كلّ مُلِمّة تُلِمّ بنا، الأستاذ بهجة الأثري، فخبّرته. فقال: لا تدير بال (أي لا تُدِرْ لها بالاً).
ووصلت المدرسة متأخراً فوجدت شيئاً عجيباً؛ الطلاّب جميعاً يستقبلونني يحفّون بي، يقولون: "خاطر الله شنو هذا" ماذا عملت؟ كيف ضربته؟ وأسئلة كثيرة من أمثال هذه كرّت عليّ باكراً. قلت: ويحكم، خبّروني أولاً ما القصّة؟فإذا القصّة أن هذا الذي ضربتُه معدود في حيّه من أبطال الرجال لا يقدر عليه أحد، أو هو يوهم مَن حوله بأنه لا يقدر عليه أحد. فلما يئس من أن ينتقم مني بيده ذهب إلى المخفر وشكاني، وكانت اللكمة قد أصابت أصول أسنانه فنزل منها الدم، فهوّل الأمر على الضابط وكبّره حتّى أحالوه إلى الطبيب الشرعي.
ويظهر أنه استمال الطبيب فربط وجهه بالرباط الأبيض ورجعه إلى الضابط، فبعثه الضابط مع شرطي إلى المدرسة يفتّش عن المجرم الذي اعتدى على هذا البطل... وكنت أنا ذلك المجرم.فكانت دعاية لي بأنني قهرت مَن هو أقوى الرجال وأنني صرت بذلك من الأبطال، وذهبوا فحدّثوا بالقصّة إخوانهم وأهليهم، وزادوا في سردها على عادة الناس في المبالغات، وملّحوها وفَلْفَلوها ووضعوا لها الحواشي والذيول، فكانت النتيجة أنني صرت بطلاً. والحقيقة كما قال المثل: "مُكرَه أخوك لا بطل"!جوال الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله - " ...

ليست هناك تعليقات: