الجمعة، 14 نوفمبر 2008

قصة مداخلتي في ندوة الأسرة والتحديات المعاصرة !

قصة مداخلتي في ندوة الأسرة والتحديات المعاصرة !
البارحة كنت في محفل عام : ( أعمال الندوة العلمية التي تنظمها مجلة البيان تحت عنوان : ( الأسرة المسلمة والتحديات المعاصرة ) ، برعاية وزير الشؤون الإسلامية في المملكة معالي الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ ، وكان الموضوع : (مواجهة تأثير الإعلام العربي على الأسرة والمجتمع - تصور عملي مقترح ) ، و صاحب الورقة في هذا الموضوع هو الأستاذ الدكتور محمد بن سعود البشر ، أستاذ الإعلام السياسي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ..
كانت ورقته ورقة ثرية ، وكان إلقاؤه لها إلقاء واضحا صريحا جريئا ..

ولما جاء وقت المداخلات عل هذه الورقة ، كانت لي مداخلة تضمنت الحديث عن جملة قضايا ، بدأتها من وحي الورقة بقول الشاعر :
متى يبلغ البنيان يوما تمامه *** إذا كنت تبينه وغيرك يهدم

ثم أخذت في ذكر بعض النقاط ، منها :
- مساهمة الإعلام في إيجاد مشكلات أسرية لم تكن ، ثم مهاجمته للمجتمع من خلالها ، وتضخيمه للكثير من القضايا ..

- أن مشاركة بعض الشرعيين والدعاة في الإعلام لم تخل من مشكلات ، منها : التعليم المنفك عن التربية الإيمانية التي تربط الحكم بالتعبد ، حتى لا يكون تدريس الفقه مثلا كتدريس القانون خاويا من الروحانية ، وضربت مثلا بفتوى الإمام أحمد رحمه الله حين استفتي في حكم ترك صلاة الوتر .. وكيف كان جوابه روحانيا تربويا إذ قال : لا يتركه إلا رجل سوء .
- وتحدثت عن الإقصاء الإعلامي في بلادنا ، وكيف أن هناك إقصاء للمقالات الوطنية بله الإسلامية ، وضربت مثلا لذلك بمقالات كتبتها فلم تنشر مع أنها كانت تدافع عن منهجنا الإسلامي المعلن ، وأن كثيراً من الكتاب والكاتبات الذكور والإناث لا ينشر لهم ..
ثم ضربت مثلا بمنع مقال للمدكتور محمد البشر نفسه ، وذكرت أن المقال كان منذ عشرة أيام ولم ينشر !
وهذه المعلومة كانت مؤكّدة ، بل إن الصحفي الذي أكّدها لي كان بجواري أثناء الجلسة !
ولكن الدكتور محمد هز رأسه كالمنكر ، لم أره وهوم يهز رأسه ، وإلا لكنت وضحت الأمر أكثر ..
ثم علقت على موضوع يتعلق بالمحور القانوني الذي ذكره الدكتور محمد ، وبينت أن الأصح أن نقول : المحور النظامي بالنسبة لأنظمة المملكة ، لأن القانون في مقابل الشريعة ، بينما النظام هو ما يسنه ولي الأمر مما لا يعارض الشريعة ، كما يعبر بعض علماء الشريعة .
- ثم اقترحت على معالي الوزير فضيلة الشيخ / صالح آل الشيخ ، اقتراحين :
الأول : أن توسع الوزارة من رعايتها للبرامج الإعلامية المهمة في القنوات الفضائية ذات الجمهور العريض .
والوزارة تقوم برعايةٍ لبرنامج ( البينة ) في قناة إقرأ مثلا ، وترسل من خلال رعايتها عددا من الرسائل الدعوية خلال الفاصل وقبل البرنامج وبعده .
الثاني : أن تقوم الوزارة بإعداد مواد إعلامية تشمل جميع شرائح الأسرة ؛ وحتى الأطفال من خلال أفلام كرتونية مثلا ، ثم تقوم بتسويقها مجانا للقنوات الفضائية التي لا تتردد غالبا في قبول بث البرامج المجانية .
ولما جاء مجال التعليق لصاحب الورقة الدكتور محمد البشر ، علق على ثلاث نقاط / منها اثنتان تعلقتا بمداخلتي :
إحداهما : بيّن فيها أنه لا يكتب إلا متى جاءته الفكرة ، كالشاعر والقصيدة ، فهو لا يكتب كل يوم ! وهنا فهمت أنه فهم من مداخلتي أنني أقول : إنه لم ينشر له منذ عشرة أيام أي مقال . والأمر ليس كذلك .
والصحيح أنني كنت أقصد مقاله الذي بلغني من أكثر من مصدر منها الصحفي الذي كان بجانبي أنه لم ينشر .
والأخرى : كانت عن استعماله لكلمة قانون ، وأنه أفاد من المداخلة حولها ، وهو ما أكّده لي على مائدة الطعام بعد الجلسة فقد اتصلت به وبينت له مرادي ، إذ لم ألبث وأنا على مائدة الطعام إلا وهو يفاجئني ويجلس بجانبي جزاه الله خيرا .
وأعدت له توضيح ما أردت ، وسألته عن المقال الذي كان مستبعدا من النشر ؛ فبيّن لي أنه نشر .. فعلمت منه أنه نشر ، وهذا يعني أنه نشر فيما بعد جمعا بين المعلومة السابقة وهذه المعلومة ..
وهنا أدركت أنه لا بد من تحديث المعلومة فيما من شأنه التغير لعدم وجود قاعدة تحكمه . وهي فائدة جليلة خرجت بها من هذا الموقف الذي لم يخل من إحراج !
ودار بيننا حديث في قضايا متعددة ، وسلمني نسخة من الورقة التي قدمها فشكرته كثير ا على ذلك ، لأنها لم تكن ضمن الأوراق الموزعة في الحقائب .
ثم أخذنا نتحدث مع رئيس مجلسنا - حول المائدة - الشيخ الجليل والفيلسوف السلفي الكبير الدكتور شيخنا الشيخ جعفر إدريس حفظه الله !
وكان من فوائد الجلسة : بيان الفرق بين العبيد في مفهوم المجتمع الأمريكي ، وأن المراد بهم من أتي بهم مستعبدين من قبل ، لا من أتوا مهاجرين فيما بعد ، ولو كانوا ملونين .
وتوضيحا للأمر رأيت كتابة هذا لمن شا أن يفهم حقيقة ما جرى ، ويفيد منه ..
وفي الحديث فوائد وفرائد ، وهو حديث ذو شجون ..

الأحد، 2 نوفمبر 2008

خبر وتعليق بشأن الجمعية السعودية للعلوم السياسية

خبر وتعليق بشأن الجمعية السعودية للعلوم السياسية
الخبر :
الجزيرة - معن الغضية / تصوير - مشعل القدير:
شهدت قاعة الشيخ حمد الجاسر بجامعة الملك سعود مساء يوم الاثنين ولادة الجمعية السعودية للعلوم السياسية، حيث تم إجراء الانتخابات لاختيار الرئيس ونائبه وأعضاء المجلس في جو من التفاؤل بهذه الجمعية الوليدة. من جانبه صرح الدكتور عبد الكريم الدخيل عضو الجمعية وعضو التدريس بقسم العلوم السياسية بجامعة الملك سعود والذي أشرف على انتخابات الجمعية خلال ليلة الانتخابات بأن التحضيرات لقيام الجمعية كان قبل سنتين، حيث تم خلال هاتين السنتين وضع اللوائح الداخلية للجمعية ودراسة كافة الأنظمة التي سوف تقوم عليها الجمعية، وأشار بقوله إلى أنه تم انتخاب الدكتور محمد مفتي عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود رئيساً للجمعية والدكتور شافي الدامر عضو هيئة التدريس بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن نائباً للرئيس، كما تم تشكيل مجلس الجمعية المكون من تسعة أشخاص، وأضاف أن مدة رئاسة الجمعية تستمر ثلاث سنوات. وعن مقر الجمعية قال في معرض كلامه إن مقر الجمعية سوف يكون في جامعة الملك سعود، حيث تجاوز عدد المنضمين إلى عضوية الجمعية أكثر من 99 شخصاً من أعضاء هيئة التدريس ومن المهتمين وحملة شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية.

------------------
التعليق :
حيث كنت أحد المشاركين في إشهار هذه الجمعية مع بعض أحبتنا .. آملين أن تكون بوابة خير لتأكيد أصالتنا ، وتطوير معاصرتنا .. فإنني أكتب بعض ما نفثه الفؤاد ..
أظن أن الجمعية السعودية بهذا المجلس الذي تم انتخابه في عملية انتخابية نزيهة - تكون قد حافظت على سعودتها الإسلامية فكريا ، أي في إطار الإسلام عقيدة وشريعة ؛ حيث فاز بعضوية مجلس إدارتها ثلة من الأخيار الأحرار ، الذين يعرفون قدر دينهم ، ويدركون عمق شريعة ربهم ، ويحرصون على وطنهم ، ويعرفون حق أمتهم ؛ فجميع من عنيت ، ممن لهم عناية بالسياسة الشرعية . وقد رشحت ستة من هؤلاء ، منهم رئيس الجمعية د. محمد مفتي وفقه الله ! وهو ممن لهم جهود مشكورة في تأصيل العلوم السياسية تأصيلا شرعيا ..
وقد كان حضور السياسة الشرعية مهما في جمعية كهذه يفترض أن تنهض بوظيفتها في ترسيخ معنى السياسة الشرعية كحاكم على السياسات الوضعية ..
نعم كان من المؤسف أن إعلانات الجمعية السابقة للإشهار تجاهلت جامعات مهمة ، منها جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، مع أنها الجامعة التي تحتضن أقدم قسم في السياسة الشرعية ، والمعهد الوحيد في المملكة الذي يمنح درجة الماجستير والدكتوراه في السياسة الشرعية ..
وهذا التجاهل في نظري يُعد حركة غير لائقة بأي حال ؛ وربما يمكن وصفها بأنها حركة غبية ، وهي على كل حال تكشف أمرين مهمين أو أحدهما :
الأول : الجهل بعلم السياسة الشرعية ، وشموله للعلوم السياسية بوصفه علما يدرس العلوم السياسة كأدوات وتجارِب يمكن الإفادة منها في بناء السياسة الشرعية بناء يتمتع بأصالة المضمون وعصرانية الوسائل والآليات .. ويدرسها كمسائل تتطلب أحكاما شرعية في ظل المرجعية الشرعية الإسلامية العليا ..
ومن هنا يجب أن يكون من المخجل ، مما ينبغي علمه لمن استمرأ هذا التصرف : أن السياسة الشرعية منصوص عليها نصاً صريحا في النظام الأساسي للحكم ، وبصفة هذه الجمعية جمعية سعودية ، كان من الواجب أن يلحظ العاملون في تنظيمها قبل إشهارها والعاملون فيها بعد الإشهار - ذلك ، وأن يولوه عناية فائقة ..
الثاني : وجود أدلجة فكرية خاصة لدى من فكر هذا التفكير ودعمه ، ووجود فكر إقصائي لا يلتزم بأدنى المعايير الوطنية لجمعية وطنية . وعليه تكون هذه الأدلجة قد وصلت إلى درجة تجاهل المجتمع والأمة ؛ بتجاهلها لمكونات الوطن الرئيسة ..
ومما ينبغي أن يدركه هؤلاء ، أن جامعة هارفارد تعترف بعلم السياسة الشرعية علما مستقلا ، ليس له مصطلح آخر ، فهو هو : السياسة الشرعية . فلا يمكن تصنيفه في غير السياسة ! فليكونوا مثل الهارفارديين الأصليين على أقل تقدير ..
وعلى كل حال / فلا يصح إلا الصحيح .. ويبقى التوفيق بإذن الله حليفا لمن يعمل لله بتوفيق الله ..
ونسأل الله تعالى التوفيق لأحبتنا في هذه الجمعية ، ونتمنى أن تكون رابطة خير وتوفيق لجميع المتخصصين في السياسة الشرعية وما يندرج تحتها من أو يخدمها من العلوم السياسية ..

من خصائص رواد الصحوة الأوائل من خلال شخصية أحدهم ..

من رجالات الصحوة الذين نحتاج إلى تذكر نتاجهم حيث يعيد التاريخ نفسه ..
الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله .. شخصية فريدة .. وقناة مستقلة .. كانت تبث في أشد الأحوال ، بل وفي أصعب الظروف تحت القصف .. فربما ودّع جمهوره قبل أن ينزل من منبره !! إنه هم الرسالة .. وصدق الإيمان .. والثقة في المبدأ .. والشعور بالمسؤولية .. فالتدين والبذل للدين ليس في أحوال دون أحوال ، بل في كل حال بما يناسبها .. وحينئذ لا تجدي محاولات المساومة .. ولا إغراءات المادة .. ولا تأوّلات التراجع .. نسأل الله تعالى أن يثبت أولياءه ، فما أروع خاتمة الرجل ، إذ استجاب الله دعاءه فقبضه إليه وهو ساجد ! نسأل الله تعالى أن يكتب له ثواب المتقين ..
رحمه الله .. رحمه الله ..
لقد كان قناة بكل تجهيزاتها وعدتها .. حين لم تكن للصحوة قناة في مثل خصائصها ، إلا ما شاء ربك ..
( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ، وكلا وعد الله الحسنى )

لقد كان رحمه الله قناة عالمية لكنها لم تكن تبث على الهواء مباشرة إلا في مسجده الذي يحتشد فيه المسلمون ، ويردفهم في الحضور الأقباط !! نعم لم يكونوا يدخلون المسجد ، لكنهم كاوا يطلون من شرفات شققهم السكنية ، ويقفون في أقرب نقطة بعد صفوف المسلمين إن أمكنهم .. حتى في سياراتهم إن لزم الأمر ..
أما بثها في عموم القاهرة فربما أخذ ساعات ، وأما بثها لبقية الديار المصرية فربما لا تحتاج لأكثر من مدة أقرب رحلة تنطلق إلى حيث تصل ..
وأما بثها خارج حدود مصر ، فتختلف من بلد إلى آخر ، ولكنها قد لا تزيد عن أسبوع في بعض البلاد مع ضعف المواصلات والاتصاللات ، لكنها شدة الطلب ..
ومن لم يصله البث يصله الخبر ، ويتداوله الناس في المحافل والمجالس ..
قناة من غير مقدم ولا مذيع ولا تحتاج إلى فواصل للتواصل ..
فهل نتذكر أولئك المحتسبين الذين لم يكونوا يقبضون درهما ولا دينارا في سبيل الدعوة إلى الله تعالى ؟!

وهذا مقطع فيه قصته مع نصراني أمريكي أتى ليناظره فعاد إلى أمريكا مسلما :
http://www.isyoutube.com/musicvideo.php?vid=f25e13a2c
وهذه مجموعة من المرئيات والمسموعات القصيرة للشيخ رحمه الله :
http://www.isyoutube.com/category.php?cat=ShikKishk&page=1

السبت، 1 نوفمبر 2008

كنت أجالسه كثيرا وإن لم أقابله إلا مرّة ! رحمة الله عليه !

الإخوة والأخوات .. هذه كلمات جرى بها القلم للتو ، ومن عادتي أن لا أقاطع القلم ما أمكنني ذلك ، فلم أشأ حجبها عنكم .. ولا سيما أنها من نوع خاص ..
-------------
نعم كنت أجالسه ساعات كثيرة ، وربما جالسته في اليوم الواحد بضع ساعات .. وإن كنت لم أقابله في حياتي إلا مرّة واحدة للأسف الشديد بعد أن وهن العظم منه ! وهي تلك الحال التي قال فيها يوما ما : لقد كبرت سني حتى لم أعد أطق المشيَ على قدمي من نجد - أو قال جدة - إلى بغداد !!
قابلته في داره ، بمدينة جدة قبل عقد من الزمن .. لكنني أكاد أتذكر كل ما في ذلك اللقاء الماتع النافع المحزن !
أكاد أتذكر ما فيه من حركات وسكنات ، والتفاتات ، وعبارات ... نعم سألته أسئلة علمية في ألفاظٍ اللغة المعربة والمولّدة ، إذ كنت شغوفا بذلك إذْ ذاك ..
وهكذا القلب إذا أحبَّ حفظ عن المحبوب ما يُحفظ وما لا يحفظ !
ذكريات الشيخ علي الطنطاوي ذكريات لها مذاقها الخاص ، وطعمها الفريد ، ونكهتها المميزة .. يتحدث فيها عن الشيخ علي الطنطاوي حديث الغريب عن الغريب ، والقريب عن القريب ، والغريب عن القريب .. يتحدث فيها عن تاريخ لا تكاد تجده عند غيره ، وعن تجارِب لا تكاد تسمعها من سواه ، وعن معترك حياة في ظروف عادية وغير عادية .. بل ويتحدث فيها عن نفسه وخلجات قلبه بصوت مسموع وأحرف بارزة ، يتحسسها الكفيف قبل أن يراها البصير .. تتسم بالصراحة والوضوح والتلقائية .. وكنت كتبت من قبل عن الأدب الذي مضى رجاله ، وكان مما جاء فيما كتبت لبعض الأعزاء مما ورد فيه ذكره :
" ورحم الله أيام فقيه الأدباء وأديب الفقهاء ذي القلم المعبر ، والعبارة الصادقة ، والمكاشفة الحقيقية حتى للذات ، أعني العلامة علي الطنطاوي عليه رحمة الله ! أديب يُضحك ويبكي ، ويهذِّب ويؤدَّب ، ويُحزِن ويفرِح !أدب بمعنى الكلمة ، لا كما هو واقع اليوم من قلة أدب بمعنى الكلمة ...
يقول العلامة الطنطاوي : الأدب إنما هو لخدمة الدين والوطن والأخلاق ، فإن خلا من أي من هذه ، فهو هذرلا قيمة له !لقد كان هذا جوابه الحاسم لمعركته مع أستاذه الشاعر شفيق جبري ، التي كانت بعنوان : هل يكون الأدب للأدب أم يكون للحياة ؟!
رحم الله أبا بنان ، فلقد ذهب ولم ير كثيرا من الهذر الذي يسمى : روايات وربما قدم لها بعض أصحاب الوزارات ! " ...

وما دعاني للحديث عنه الآن : رسالةٌ وصلتني تحمل ذكريات من تلك الذكريات ، لم يوثقها مرسلها ، لكن مضمونها موجود في الجزء الرابع من كتاب الشيخ : ( ذكريات ) ، ففيه تحدث الشيخ عن ذكرياته في المدرسة الغربية ببغداد ص 115 وما بعدها .. وهي ذكريات مليئة بالعبر ، منها حديثه عن اليهود الذين كانوا يمثلون تسعة أعشار الطلاب في الأقسام العلمية ! ووقع أن كان الخمسة الأوائل منهم ! وكيف تعامل معهم بمنهج العدالة بعد أن غاظ المديرَ شأنُهم .. وهذه قصة الشيخ علي الطنطاوي ملاكما .. بنصها الذي وصلتني به ، وفيها اختلاف يسير لا يضير ..

" ممّا وقع لي في بغداد تلك السنة (1939) أنني دخلت في فرقة الملاكمة فتعلّمت من هذا المدرّب الألماني وقفة الاستعداد وأنواع اللكمات: المستقيمة الأمامية والمنحنية الجانبية والقصيرة الصاعدة. والقاعدة عندهم أن يستعمل المبتدئ في بداية التدريب يده اليسرى وحدها، حتّى إن من المدربين من يربط اليمنى حتّى لا يستعملها.
تدرّبت أولاً على الكيس الثقيل، ثم شرعت أنازل بعض الطلاّب، أضربهم ويضربونني، فإذا دخلت الفصل عدت مدرّساً وعادوا طلاّباً. وأشهد أن طلاّب العراق يعرفون الانضباط تماماً.
ولبثت على ذلك شهوراً، حتّى كان يوم أصابَتني فيه ضربة من طالب تورّمَت منها عيني وظهر أثرها عليها، فقلت للمدرب: إلى هنا وبَسْ (وكلمة "بس" بمعنى "فقط" فصيحة معرَّبة من القديم).
ولكن سرعان ما طبّقت ما تعلمتُه من دروس الملاكمة؛ ذلك أنني زجرت يوماً طالباً مسيئاً يبدو أنه من أسرة غنيّة وجيهة، فحقد عليّ أهله.
وكنت في صباح يوم مطير من أيام الشتاء أمرّ أمام وزارة الخارجية ذاهباً إلى المدرسة، فاعترضني رجل طويل ممّن يُدعَون في بغداد "أبو جاسم لِرْ" أي من صنف الفتوّات كما يُقال في مصر أو القَبَضايات كما يُقال في الشام. وكلمة "لر" تركية هي علامة الجمع عندهم.
ففتح معي باباً للشرّ وقال: لماذا شتمت فلاناً (يعني من الطلاّب؟) أما عرفت من هو؟ وهل بلغ من قدرك أن تتطاول على ابن فلان؟ فقلت له: حافظ على أدبك، وإن كان لك كلام فراجع مدير المدرسة.فقال قولاً بذيئاً وهدّدني وأمسك بصدر ردائي حتّى كاد يشقّه، ثم لوّث ثوبي بحذائه المحمّل بالوحل والطين فترك عليه أثراً ظاهراً. وكان يمشي إلى يساري، فقبضت يدي وتناولته بلكمة جانبية جاءت تحت صدغه لم يكُن يتوقّعها.وتجمّع الناس وحالوا بيني وبينه، ولم أعد أستطيع المشي إلى المدرسة بهذا الثوب الملطّخ بالوحل فأخذت عربة (عَرَبانة كما يقولون) وذهبت فبدّلت ثيابي، ومررت بالأخ الكبير الذي كان مَفْزَعنا في كلّ مُلِمّة تُلِمّ بنا، الأستاذ بهجة الأثري، فخبّرته. فقال: لا تدير بال (أي لا تُدِرْ لها بالاً).
ووصلت المدرسة متأخراً فوجدت شيئاً عجيباً؛ الطلاّب جميعاً يستقبلونني يحفّون بي، يقولون: "خاطر الله شنو هذا" ماذا عملت؟ كيف ضربته؟ وأسئلة كثيرة من أمثال هذه كرّت عليّ باكراً. قلت: ويحكم، خبّروني أولاً ما القصّة؟فإذا القصّة أن هذا الذي ضربتُه معدود في حيّه من أبطال الرجال لا يقدر عليه أحد، أو هو يوهم مَن حوله بأنه لا يقدر عليه أحد. فلما يئس من أن ينتقم مني بيده ذهب إلى المخفر وشكاني، وكانت اللكمة قد أصابت أصول أسنانه فنزل منها الدم، فهوّل الأمر على الضابط وكبّره حتّى أحالوه إلى الطبيب الشرعي.
ويظهر أنه استمال الطبيب فربط وجهه بالرباط الأبيض ورجعه إلى الضابط، فبعثه الضابط مع شرطي إلى المدرسة يفتّش عن المجرم الذي اعتدى على هذا البطل... وكنت أنا ذلك المجرم.فكانت دعاية لي بأنني قهرت مَن هو أقوى الرجال وأنني صرت بذلك من الأبطال، وذهبوا فحدّثوا بالقصّة إخوانهم وأهليهم، وزادوا في سردها على عادة الناس في المبالغات، وملّحوها وفَلْفَلوها ووضعوا لها الحواشي والذيول، فكانت النتيجة أنني صرت بطلاً. والحقيقة كما قال المثل: "مُكرَه أخوك لا بطل"!جوال الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله - " ...