الاستفسار :
إن سمح لي الأستاذ فهد السنيدي مشكورا ، أن نبدأ بأسئلة أخف من الخفيفة فنحن نتمنى أن نتعرف على الشيخ قبل اللقاء أكثر فنود أن نعرف شيئا عن حياة الشيخ في الصبا ونشأته الأولى وحياته بعد ذلك، ودراسته النظامية ودراسته على العلماء لا سيما الشيخ عبد الله بن حسن بن قعود –رحمه الله- الذي كتب عنه مقالا بعد وفاته وترقيه في مدارج العلم؟
الجواب :
أخي أبا أسامة ..
وأما طلب العلم بين يدي العلماء ، فهو الجزء الثاني من جواب سؤالكم هذا وسأقتصر فيه على ما أراه جديدا مفيدا في طرح مثل هذا الموضوع إن شاء الله تعالى .
الجزء الثاني من جواب سؤال أبي أسامة :
الحديث عن أهل الفضل والعلم الذين يُفيد منهم طالب العلم يطول ، فلكل معلمٍ مخلصٍ فضل على تلميذه ، ولا سيما من ينساهم الطالب حين يرتفع عن مستوى المراحل الابتدائية وما دونها والمتوسطة والثانوية ، بل والجامعية !!
ولا عجب فقد رأينا من ينسى فضل والديه نسأل الله العافية ، وإلا فكم لمعلمي ومعلمات تلك المراحل من فضل في تأسيس الطالب والطالبة وتوجيههما ، بل ربما كان بعضهم سببا في فيصل حياة مهم للمتتلمذ عليه وهو لا يشعر ! أو ربما لا يذكر !! وعزاؤهم أن الكريم سبحانه لا ينساهم ، ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) ، فهنيئاً لمن يُكتب أجره وأجور غيره في عزلة عن أسباب الرياء وبُعد عن مواطن الفتن .. وحسب الوفيّ أن يذكرهم فيشكرهم ، ويتذكرهم فيدعو لهم ، ولا سيما في مواطن الإجابة .وليس المجال هنا مجال ذكرٍ لهؤلاء بأعيانهم ، بقدر ما هو محاولة للاقتراب من بعضنا على نحو ما ورد في السؤال من غاية ، ولذا سأقتصر على ذكر بعض الأمور عن شيخ شيوخنا وعن شيخنا الذي ذُكِر اسمه صريحا في السؤال مع بعض الإشارات .
والدراسة في مجالس أهل العلم التي تُقصد عادة في مثل هذا السؤال ، لها جوانب مهمة قد تختفي مع أهميتها ما لم يوسع في التعبير فيقال : الإفادة من مجالسة أهل العلم ، وهي مجالسة لها صور أكتفي منها هنا بصورتين :الصورة الأولى : حضور الدروس المنتظمة للشيوخ الكبار أولاً ، مع الانتظام في حضورها ..
وقد بدأ حضوري لمجالس أهل العلم مع والدي رحمه الله ، إذ كان يحرص على مرافقتي له فيما يحضره من مجالس علمية كدروس الشيخ عبد الله بن حميد والد الشيخ صالح بن حميد حفظه الله ، تلك الدروس التي لم أدرك منها إلا شيئا يسيرا لا يتجاوز بضع جلسات أو تزيد قليلا ، بقي منها ذكريات طفولة ، كهيئة تحلّق الطلبة فيها في ساحة المسجد الخارجية ، بينما لا أعي منها – لصغر السن - علما ، إلا ما علق بالذهن من كلمات كان يرددها الشيخ بنغمة صوته الندي فأطرب لها وأرددها دون وعي بمدلولها ، وذلك حين نعود للمنزل لأكمل ما قطعه الذهاب للدرس من جولات الطفولة المرحة فيه . وكان الشيخ الذي كنت أعي كثيراً مما يقول ، هو سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله ، وهو الشيخ الذي واصلت حضور دروسه بعد ذلك بحمد الله في مدينة الرياض حتى آخر درسٍ قبيل وفاته .
و مهما قلت عن هذا الشيخ وعظيم أثره في النفوس ، فليس أدل على عمق أثره في نفسي من البوح بأنني كنت أذهب إليه في أوقات معينة – غير أوقات الدروس - في مسجده ، بغية سؤاله عن بعض ما يتجمع لدينا من أسئلة أنا وبعض الأصحاب ، حتى مرت بنا أيام كنا نذهب إليه فيها ونصلي بجانبه في روضة مسجده وليس لدينا سؤال محدد ، اللهم إلا الشوق العجيب لرؤيته ! والإفادة من سمته ، حتى شككنا في مشروعية صنيعنا ! وقد كتبت يوم وفاته مقالَ وفاءٍ قصير ، بعنوان " شمس العلماء وداعية الثقلين " نشر في حينه في بعض الصحف .ولا زلت أراجع ما دونته من تعليقاته وتقريراته على كتب الدرس ، وأسعد باحتضان مجموع فتاواه كثيرا ، وأستمع لبعض دروسه وأجوبته المسجلة بين حين وآخر ، وأنجذب لما يذاع من صوتياته في إذاعة القرآن الكريم حتى إنّه ليعسر علي إغلاقها قبل انتهاء البرنامج ، فلن تسمع إلا آية تُفسَّر أو حديثا يُبيَّن بعبارة في غاية الوضوح مع عمق الفهم .
ومن المشاريع التي بدأتها وأسأل الله تعالى أن ييسر تمامها : الفتاوى السياسية للإمام ابن باز رحمه الله .
وأنا أنصح كل محب أن يقرأ ويستمع إلى هذا الشيخ القدوة عليه رحمة الله !
وأُلخص منهجه العلمي التأصيلي - الذي أفدناه منه عن قناعة - في قصة قصيرة ذات دلالات عميقة ..
كنت أحضر بين حين وآخر جلسته العامة ضحى كل خميس ، وكانت هذه الجلسة تنتهي بأذان صلاة الظهر ، فيخرج الشيخ للمسجد وينصرف أكثر الناس ، ويخرج بعض محبي الشيخ معه للمسجد مشيا على الأقدام ، وذات مرة خرجنا مع الشيخ للمسجد ، وكان أحد كبار العلماء يمشي على يمين الشيخ فاقترب منه قائلا : وجدت مخطوطة في الفقه لأحد علماء الحنابلة ..
فسأله الشيخ : هل يعتني بالدليل ؟
ولما لم يسمع الشيخ جوابا شافيا ، بادره بالغاية من السؤال قائلاً : إن كان يعتني بالدليل وإلا مثله مثل غيره !
وأما الشيخ عبد الله بن قعود رحمه الله ، فما أدري من أين أبدأ في ذكر شيء من خبره ؟ ولعل المَخرج من ذلك أن أحيل إلى ما كتبته عنه بعيد وفاته بلحظات ، وهو المقال الذي أشرتم إليه ؛ غير أني أستطيع القول : إن دراستي وبعض الزملاء عليه كانت دراسة تخصص متميزة ، وهذا ظاهر في نوعية الكتب التي أتممنا قراءتها عليه ، وقد ذكرت أهمهما في المقال آنف الذكر .ومن أعظم الفوائد المنهجية التي أفدناها من هذا الشيخ الجليل ، أن ثمة فارقا كبيرا بين النظر المجرد في العلميات ، والتطبيق الصحيح لها على الواقعات .
وأُلخِّص هذه الفائدة الجليلة بذكر قصة حكاها لنا عن الإمام ابن باز ، وذلك في كلامه عن التفريق بين التنظير المجرد والتطبيق العملي الذي يحتف به ما يخرجه من الانضواء تحت التنظير ، وأن هذا سبب لكثير من الاستشكالات عند من لا يفطن لذلك من طلبة العلم ..
يقول فيها رحمه الله : كنت أقرأ ان الشيخ ابن باز من كلام ابن القيم في مدارج السالكين ، وطلب مني أن أقرأ بعض تعليقات الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله ، يقول الشيخ عبد الله ، فكان الشيخ ابن باز رحمه الله يقول - وهو يضحك - : رحم الله الشيخ الفقي لو تولّى القضاء ما قال هذا الكلام !
والصورة الثانية : الرحلة إلى أهل العلم والاتصال بهم ولا سيما مع تعدد وسائل الانتقال والاتصال ، والحرص على لقيا الكبار منهم ؛ وهذا أمر يغفل عنه كثير من طلبة العلم مع أهميته في الموازنة الشرعية بين التأصيل الشرعي والمنهجيات المتبعة في تطبيقه في الحياة المعاصرة .. كما أنَّ من فوائده وقوف طالب العلم بنفسه – من غير وسيط - على حقائق الآخرين الخيِّرة ، بعيدا عن التصورات الغاوية أو التصنيفات المُغرضة ، كما يُسهم في الخروج من النظرة الإقليمية وتأثيرها على التحصيل والتأصيل الشرعي ، تلك النظرة التي يظهر أثرها في الفتاوى على نحو يفقدها وصف الشرعية أحيانا . وهو الأمر الذي تجلت فائدته أكثر وأكثر في المجامع الفقهية والمؤتمرات الإسلامية ؛ كما يتجلى أثره النافع في مواقف العلماء الكبار ممن لهم مخالطة مشهودة لأهل العلم ورجال الدعوة من أهل الأمصار الأخرى ؛ ولا غرابة أن شهدنا بأعيننا تلازم سعة الأفق وسعة العلم في علماء من أمثال شيخنا الإمام عبد العزيز بن باز وشيخنا عبد الله بن حسن بن قعود رحمهما الله تعالى .
وهذه السعة لا زلنا نشهد فوائدها من سير علمائنا الحاليين من أمثال شيخنا عبد العزيز آل الشيخ سماحة مفتي عام المملكة ، الذي شهدت كثيرا من لقاءاته بالعلماء الأجلاء والدعاة الفضلاء من داخل المملكة وخارجها ، ومن العرب والعجم ، وهو مما حملني على كتابة وصف لمنهجه – سلمه الله - في التعامل مع الآخرين من الموافقين والمخالفين ، أضفتها مقدمةً لمقالات كتبتها في قراءة لخطبة عرفة قبل عامين ، وذلك بعد أن أشار إلي بعض الأفاضل بكتابتها ، فرأيت نشرها نافعاً مفيداً للقراء ولا سيما أحبتنا الشباب وإخواننا طلبة العلم الذين ربما غلّبوا السمع على المشاهدة .. وقد نشرت في النسخة الثانية من المقال ، وذلك في ملحق الرسالة من جريدة المدينة التي كان يشرف عليها الإعلامي المعروف د.عبد العزيز قاسم أعاده الله إلى الإعلام وزاده عزة وثباتا على المبدأ .
وقد قابلت بحمد الله كثير من أهل العلم والفضل من علماء كثير من الأقطار الإسلامية وغيرها ، ومن أصول عربية وعجمية ، وأفدت منهم كثيرا ، بل جعلت بعضهم مرجعاً في المسائل التي أجد لهم فيها تميزاً بمزيد فقه ومعايشة واقع ، أتصل بهم أو يتصلون بي فأفيد منهم في تحقيق بعض المسائل و فهم بعض الوقائع ؛ فشعرت باقترابي من روح الشريعة أكثر من ذي قبل ، وأدركت من معاني قول الله تعالى ( ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ) ما جعلني أقرَب إلى تدبر معاني قول الله تعالى : ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) !
والحديث في هذا يطول ، ولكن وددت الإشارة إليه في هذه المناسبة ، وربما كان في جواب الأسئلة التالية - إن شاء الله تعالى - ما يضيف شيئا لهذا الجانب .
( المصدر : استضافة منتدى ساعة حوار )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق